جوع هذا الرحل ليس له مثيل وليس له حدود ..
من منا لا يحب الطعام ؟! .. من منا لا يسيل لعابه عند رؤية أكلة يحبها أو حتى شم رائحتها .. لكن مهما أكلنا فإننا سنصل لمرحلة نقول فيها كفى .. لم أعد أستطيع .. شبعت .
وحده بطل قصتنا في هذا المقال لا توجد كلمة شبعت في قاموسه ، فهو جائع باستمرار و يرحب بالطعام في جميع الأوقات ، و لم تقتصر وجباته على الأكل الطبيعي ، بل تعدته لتشمل الأحجار و النفايات و حتى الحيوانات الحية !!
لكن مهلاً .. من هو هذا الشخص و أين عاش ؟ و كيف كان يشبع نهمه اللامحدود للأكل ؟؟ السطور القادمة ستوضح لكم كل شيء فتعالوا معي للتعرف على هذا الرجل النادر ..
ضاق والداه به .. فمهما اعطياه من طعام لا يشبع |
اسمه تارار (Tarrare) ، فرنسي ولد في الريف قرب مدينة ليون عام 1772 ، منذ طفولته لاحظ أهله أنه لا يشبع و شهيته تبقى مفتوحة كل الوقت ، و في مراهقته كانت كمية اللحم الذي يتناولها يومياً هائلة ، عندها أدرك والداه أنه ليس باستطاعتهما إشباع هذه الشهية التي ستجعلهما ينفقان كل ما يملكان لذلك قاما بطرده من المنزل ..
و من هنا تبدأ سلسلة معاناة تارار مع هذه العلة التي ابتلي بها ، فقد و جد نفسه وحيداً بلا أهل أو مأوى ، و بلا طعام يخمد فيه رغبته الدائمة للأكل ..
فتعرف على مجموعة من اللصوص و العاهرات و أخذ يتسول و يسرق معهم من أجل الطعام ، ثم انضم لفرقة من المشعوذين تنقّل معها بين مقاطعات فرنسا و عرض من خلالها قدراته العجيبة في الأكل ، فقد كان يبتلع الأحجار و الحيوانات الحية و الفلين و أشياء أخرى ، فنال عرضه إعجاب الجمهور و لذلك جعلت هذه الفرقة من عرضه الفقرة الافتتاحية التي تبدأ بها باقي فقراتها ، و وصل بتنقله إلى مدينة باريس عام 1788 ، و نالت قدراته الفريدة إعجاب جمهورها ..
و إبان الثورة الفرنسية و تحديداً عند اندلاع حرب التحالف سنة 1792 ، انضم تارار لصفوف جيش الثورة ، لكن المسكين صدم بكمية الطعام المقدمة لأفراد الجيش هناك ، فلم تكن تكفيه بالمرة ، لذلك اضطر أن ينوب عن رفاقه في بعض المهام الموكلة إليهم مقابل إعطاءه جزءاً من حصصهم و مع ذلك لم يكن يشبع !!
تصوروا فترة حرب و يجب أن يطبق خلالها نوع من التقشف في الطعام ، و تارار دائر يبحث عما يملأ به جوفه الفارغ دوماً ، أظنه لو أكل كل الحصص الغذائية المخصصة للجيش لقالت معدته هل من مزيد ؟ ! ..
هذا الوضع أدى لتدهور صحته ، فتم نقله إلى المشفى العسكري ، و في ذلك المشفى بدأت سلسلة أخرى من معاناته مع الجوع ..
وجبات المشفى لم تكن تكفيه فكان يعوض عنها بأبتلاع الضمادات الطبية ! .. |
كانت تقدم له في المشفى أربع وجبات ، لكن باعتقادكم هل كان ذلك يكفي ؟؟ .. بالطبع لا ، فقدرة تارار على الأكل كانت استثنائية ، لذلك كان يأكل بقايا طعام المرضى ، و يبحث في القمامة ، حتى أنه كان يتسلل إلى صيدلية المشفى و يبتلع الضمادات الموجودة هناك ..
و أصدر قادة الجيش أمراً بإبقاء تارار في المشفى و إخضاعه لتجارب فسيولوجية قام بوضعها الطبيب " كورفل "
و أصدر قادة الجيش أمراً بإبقاء تارار في المشفى و إخضاعه لتجارب فسيولوجية قام بوضعها الطبيب " كورفل "
في المشفى خضع تارار لعدة تجارب قام بها كلاً من الطبيب "بيرسي" و هو الجراح العام للمشفى العسكري و الطبيب "كورفل" لقياس مدى قدرته على الأكل ، لذلك قدما له وجبة ضخمة تكفي لإطعام خمسة عشر عاملاً ، و كانت هذه الوجبة تتألف من فطيرتي لحم كبيرتين و أطباق من الشحوم و الملح و كذلك أربع غالونات من اللبن ، استطاع تارار التهامها بكل بساطة .
وفي تجربة أخرى قدما له قطة حية ، ففتح تارار بطنها بأسنانه و امتص دمائها ثم ابتلع لحمها وجلدها وفرائها تاركاً العظام ، ثم عاد و تقيأ الفراء والجلد !!
و أيضاً قدما له حيوانات أخرى كالأفاعي و السحالي و الجراء و أكلها كلها .
و بعد فترة كان على تارار أن يعود للخدمة العسكرية ، فاقترح الطبيب كورفل على قادة الجيش استغلال قدرات تارار في خدمة الجيش ، و كان قد قام بتجربة عليه و هي أنه جعله يلتهم صندوقاً من الخشب وضع فيه وثيقة ورقية و من ثم استخرج هذا الصندوق من برازه بعد يومين ، و كانت الوثيقة سليمة .
حتى القطط لم تكن تنجو منه .. كان يطاردها لكي يبتلعها |
و بعد نجاح تجربته أعاد عرضها أمام العقيد " دي بواريه " قائد جيش الراين ، فوافق الأخير على تعيين تارار رسولاً لنقل الوثائق السرية بين فرنسا و الجيش الفرنسي المرابط في أرض العدو ، و هكذا جُلِب تارار لاستعراض قدرته العجيبة في التهام الطعام أمام بقية قادة الجيش ، و بالغعل استطاع أمامهم أكل محتويات عربة محملة ب300 رطل من أكباد الثيران غير المطبوخة ، فنال ذلك إعجابهم ، و بذلك تم تعيين تارار عميلاً للجيش ، لكن العقيد " دي بواريه " لم يكن واثقاً من قدرات تارار العقلية ، لذلك لم يخاطر بوضع وثائق سرية مهمة و إنما وضع في الصندوق رسالة عادية لكولونيل محتجز لدى القوات البروسية ، لكنه أخبر تارار بأنه سينقل وثيقة مهمة للغاية و يجب الحفاظ عليها ..
عبر تارار و هو يحمل في جوفه كنزه الخطير خطوط الجبهة البروسية ليلاً متستراً بالظلام ، و قد ارتدى زي فلاح ألماني لكن الخطأ الكبير كان في عدم معرفة تارار اللغة الألمانية ، الأمر الذي لفت انتباه أهل المنطقة هناك ، فأبلغوا عنه القوات البروسية التي ألقت القبض عليه و قامت بتفتيشه و بالطبع لم يجدوا شيئاً معه ، فتشوا كل شيء على حسب ظنهم .. لم يكونوا يعلموا أن الرجل الماثل أمامهم يحمل السر داخل جسده !!
لم يجعل التحقيق أو الجلد تارار يعترف ، لذلك وضع في السجن ، لكن بعد مرور يومٍ كامل على سجنه لم يستطع تارار الصمود ، و اعترف بطبيعة مهمته ، فقاموا بربطه للمرحاض و استخرجوا الصندوق الخشبي منه بعد أن مر على ابتلاعه 30 ساعة ..
استشاط القائد البروسي غضباً عندما اطلع على محتوى الصندوق ، خصوصاً أن تارار كان قد أخبره أنه يحوي وثيقة هامة ، لذلك أمر بربطه و إعدامه بالمقصلة ، لكنه عاد و غير رأيه عندما أوشك الجنود على تنفيذ حكم الاعدام ، و أمر بضربه ضرباً شديداً و من ثم إرساله إلى أقرب نقطة من الخطوط الفرنسية .. غريب حقاً أن يحن قلب القائد البروسي على تارار و يتراجع عن إعدامه في اللحظة الأخيرة !!
ارادوا الاستفادة منه كجاسوس |
بعد هذه التجربة الفاشلة عاد تارار إلى المشفى العسكري ، و قد كان مكسور الخاطر ، و فاقداً الرغبة بمواصلة أي مهام أخرى لصالح الجيش ، بل كان قد مل من شهيته اللامتناهية للأكل و ضاق ذرعاً بها ، لذلك طلب من الطبيب بيرسي أن يعالجها له بأي وسيلة ، المهم أن يتخلص من هذه اللعنة ..
فاستخدم الطبيب بيرسي الأفيون في علاج شهيته لكن ذلك لم يؤدي لنتيجة ، كما استخدم الخمر و الخل و أقراص التبغ لكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع ، لأن تارار كان يتسلل من المشفى و يبحث عن بقايا اللحوم عند القصابين ، كما أنه كان يبحث في صناديق القمامة و حتى بقايا جثث الحيوانات المتعفنة لم تسلم منه !!
و ضبط أكثر من مرة و هو يشرب دم المرضى اللذين يخضعون للصفد ، كما أنه ضبط متلبساً في المشرحة و هو يحاول أكل جثث الموتى ، هذه الأفعال جعلت العاملين في المشفى يطالبون بنقله لمصحة نفسية فقد اعتبروه مجنوناً ، لكن الطبيب بيرسي ظل متمسكاً به و استطاع إبقاءه لاستكمال تجاربه عليه فحالته نادرة و تثير شهية أي طبيب لدراستها و مراقبة تطوراتها ، لكن فيما بعد وقعت حادثة في المشفى جعلت حتى الطبيب بيرسي يتخلى عنه ..
فقد اختفى طفل عمره أربعة عشر شهراً ، واتهم تارار بالتهامه ، لم تكن هناك أدلةً ضده ، لكن تصرفاته التي يعرفها كل من في المشفى جعلت أصابع الاتهام تتوجه إليه ... لذلك تم طرده خارج المشفى نهائياً ، و انقطعت أخبار تارار و لا أحد يعرف كيف كان يقضي أيامه ..
اتهموه بألتهام طفل رضيع .. |
و بعد حادثة اختفاء الطفل بأربع سنين ، أي في عام ١٧٩٨ و في مدينة فرساي الفرنسية اتصل الطبيب " تسير " بالطبيب بيرسي و أخبره أن هناك مريضاً يود رؤيته ، و بالطبع هذا المريض لم يكن سوى .. تارار .
ذهب الطبيب بيرسي إليه ، و بالفعل وجده طريح الفراش ، لقد كان مريضاً بشدة ، شكى تارار للطبيب أنه تناول منذ عامين شوكة ذهبية ، و هو يظن أن سوء حالته هذه بسبب أن الشوكة لازالت بجوفه و لم تخرج ، لكن الطبيب بيرسي بعد فحصه لتارار أدرك أنه يعاني من مرحلة متأخرة من مرض السل ، و بعد أشهر أصيب تارار بإسهال لم يتوقف حتى مات بعده بفترة قصيرة عن عمرٍ قدره الأطباء بنحو 26 عاماً فقط !! فلم يكن تارار مسجلاً في السجلات الرسمية لذلك لم يتأكد أحد من مواليده الحقيقية و لا حتى اسمه ..
و قد تتساءلون عن شكل تارار ، و ربما يعتقد البعض بأنه ضخم الجثة ، أو بدين .. لكن هذا الاعتقاد خاطئ ، فتارار كان رشيقاً متوسط الطول ، بلغ وزنه عندما كان في سن السابعة عشر 45 كغ فقط !!
عرف عنه أنه كان ناعم الشعر ، فمه واسعٌ جداً و شفاهه دقيقة و رفيعة ، و كان ملاحظ أن أسنانه دائماً متسخة ببقايا الطعام الغريب العالق عليها .. لكن أغرب شيء فيه هو جلده .. فقد كان جلد بطنه مترهلاً جداً بحيث يستطيع لفه حول خصره إن كان جوفه فارغاً بالطبع ، أما عندما يمتلئ فبطنه ينتفخ و يصبح كالبالون !! هل استطعتم تخيل المنظر ؟
أما جلد خديه كان مجعداً بشدة و هذا ما يجعله يستطيع وضع 12 بيضة أو تفاحة في فمه بآن واحد ، و يذكر أيضاً أن جسده كان ساخناً كثير التعرق ، تنبعث منه رائحة كريهة يستطيع الناس شمها على بعد 20 خطوة منه ، و تزداد هذه الرائحة بشاعة عندما يأكل طعامه الغريب و تدفق الدماء إلى عينيه و وجنتيه ، و يطلق جسده بخاراً كريه الرائحة ، بعدها يدخل تارار بنوبة من الإرهاق و يتجشأ بصوت مسموع ..
ولم يلحظ عليه من عاصره أي خلل عقلي سوى انه كان متبلد الإحساس ، كما أنه كان خاملاً و فاقداً القوة البدنية .
صورة من مخطوطة اوربية قديمة تظهر تارار وهو يلتهم طيرا بريشه ! .. والعجيب انه لم يكن بدينا بل جسمه عادي جدا .. |
و عند وفاته تعفنت جثته بسرعة ، و رفض الأطباء تشريحها لكن الطبيب " تسير " كان لديه فضول للمقارنة بين أعضائه و أعضاء الإنسان الطبيعي ، كما أنه رغب بالتأكد من وجود الشوكة الذهبية و هل هي فعلاً عالقة في جوفه ؟ لذلك قام بتشريح جثته ، و اكتشف أن المري لديه أضخم حجماً من مري الإنسان الطبيعي ، و عند فتح فكيه استطاع رؤية قناة واسعة تمتد حتى معدته ، و لاحظ أيضاً أن كبده و مرارته أضخم من حجمهما الطبيعي و كذلك معدته ، فقد كانت معدته تحتل معظم التجويف البطني ، و وجد فيها الطبيب " تسير " آثار قرحة هضمية .. و بعد كل هذا التشريح و هذا التنقيب لم يجد الطبيب " تسير " أي أثر للشوكة الذهبية التي التهمها تارار و ظن أنها عالقة في جوفه !!
لم يشهد الأطباء المعاصرين حالة مثل حالة تارار ، صحيح أن فرط نشاط الغدة الدرقية من شأنه أن يسبب زيادة في الشهية و نقصاً ملحوظاً في الوزن ، و تعرقاً غزيراً ، لكن حالة تارار كانت نادرة حتى لو وجدت حالات تشبهها ..
و في عام 2006 اعتقد الطبيب " بوندسون " أن تارار كان يعاني من تلف في اللوزة الدماغية و الذي يؤدي للبطنة عند الحيوانات .
ختاماً لا يسعني القول سوى أني تعاطفت مع تارار و أشعر بالرثاء لأجله ، فقد ابتلي بآفة لم يكن يستطيع التحكم بها ، و طرد من منزل أهله و عاش متشرداً مع فرقة متجولة ، إلى أن انضم لصفوف الجيش الذي عانى فيه كثيراً و كاد يعدم بسبب استغلال قدرته العجيبة على الأكل ، و أتوقع أن عالمنا العربي مليء بأشباه تارار ، فهل لك عزيزي القارئ أن تذكر لنا ما إن صادفك بالحياة شخص أو أكثر لديه قدرات تارار في التهام الغريب من الطعام و بشهية لا تنقطع ؟؟
هوامش :
حرب التحالف الأول (1792-1797) : حصلت هذه الحرب ضد فرنسا وثورتها ، حيث قامت عدة ممالك أوروبية بالتحالف في مواجهة المد الثوري الفرنسي بعد أن أعلنت فرنسا الحرب على النظام الملكي في النمسا في ٢٠ أبريل عام ١٧٩٢ ، في حين انضمت مملكة بروسيا إلى الجانب النمساوي .
اللوزة الدماغيةأو الجسم اللوزي ( Amygdala) هي جزء من الدماغ تقع داخل الفص الصدغي من المخ أمام الحصين
و هي تشكل جزءاً من الجهاز الخوفي ، و تشارك في إدراك و تقييم العواطف و المدارك الحسية و الاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف و القلق ، و هي تراقب باستمرار ورود أي إشارات خطر من حواس الإنسان و تعتبر كنظام إنذار و استشعار للمتعة .
و هي تشكل جزءاً من الجهاز الخوفي ، و تشارك في إدراك و تقييم العواطف و المدارك الحسية و الاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف و القلق ، و هي تراقب باستمرار ورود أي إشارات خطر من حواس الإنسان و تعتبر كنظام إنذار و استشعار للمتعة .
المصادر :
تاريخ النشر 07 / 08 /2016
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire